Description
التّوطِئة
يندرج نشر هذا النصّ المقتطف من كتاب النّجاة في الطّبّ للشّيخ الرّئيس أبي عليّ بن سينا صمن سلسلة من نصوص فلاسفة الإسلام الطبيّة المفْرَدة لِجهة النّظر الكلّيّة (أي اللاّصّناعيّة) يعتزم الموقع نشٍها تباعًا، عَسَى أن نجد في ثناياها بعض ضالّتنا فيما يتخبّط فيه مَن امتهن صناعة الطبّ من مَتَطبِّبي العَصْر.
وميزة هذا النصّ أنّه يطرح علم الطبّ من حيث اتّصاله بالنّظر الفلسفي، أي من حيث اتّصاله بالكلّيّات، قاطِعًا من ثمّة مع الممارسة الطّبّيّة باعْتبارها صناعة متّصلّة بالجدزئيّات دون سواها.
الشّيخ الرّئيس أبو عليّ بن سينا
كتاب القانون في الطّبّ
خطبة الكتاب
الحمد لله حمدًا يتسحقّه بعلوّ شأنه، وسبوغ إحسانه،
والصّلاة على سيّدنا محمّد النّبيّ وآله وسلامه
وبعد، فقد اِلتمس منّي بعض خّلص إخواني، ومن يلزمني إسعافه بما يسمح به وسعي أن أصنّف في الطبّ كتابة مشتملاً على قوانينه الكليّة والجزئيّة اشتمالاً يجمع إلى الشّرح الاختصار وإلى إيفاء الأكثر حقّه من البيان الإيجاز، فأسعفته بذلك.
ورأيت أن أتكلّم أوّلا في الأمور العامة الكلية في كلا قسمي الطب، أعني القسم النظري، والقسم العملي. ثم بعد ذلك أتكلم في كليات أحكام قوى الأدوية المفردة. ثمّ في جرئیّاتها. ثمّ بعد ذلك في الأمراض الواقعة بعضو عضو، فأبتدئ أولا بتشريح ذلك العضو ومنفعنه، وأمّا تشریح الأعضاء المفردة البسيطة فيكون قد سبق مني ذكره في الكتاب الأوّل الكلي وكذلك منافعها. ثم إذا فرغت من تشریح ذلك العضو ابتدأت في أكثر المواضع بالدلالة على كيفية حفظ صحته. ثمّ دللت بالقول المطلق على كلبات أمراضه وأسبابها وطرق الاستدلالات عليها) وطرق معالجاتها بالقول الكلي أيضا فإذا فرغت من هذه الأمور الكلية أقبلت على الأمراض الجزئية، ودللت أوّلاً في أكثرها أيضا على الحكم الكلي في حده وأسبابه ودلائله، ثمّ تخلصت إلى الأحكام الجزئية، ثم أعطيت القانون الكلي في المعالجة، ثم نزلت إلى المعالجات الجزئية بدواء، دواء بسيط أو مركب. وما كان سلف ذكره من الأدوية المفردة ومنفعته في الأمراض في كتاب الأدوية المفردة في الجداول والأصباغ التي أری استعمالها فيه، كما تقف أيها المتعلم عليه إذا وصلت إليه، لم أكرر إلا قليلا منه. وما كان من الأدوية المركبة أن ما الأحرى به أن يكون في الأقرابادین الذي أرى أن أعمله أخرت ذکر منافعه وكيفيّة خلطه اليه.
ورأيت أن أفرغ عن هذا الكتاب إلى كتاب أيضًا في الأمور الجزئية، مختصّ بذكر الأمراض التي إذا وقعت لم تختص بعضو بعينه، ونورد هنالك أيضا الكلام في الزينة، وان أسلك في هذا الكتاب أيضًا مسلكي في الكتاب الجزئي الذي قبله، فإذا تهيّأ بتوفيق الله –تعالى- الفراغ من هذا الكتاب، جمعت بعده کتاب الأقراباذين.
وهذا كتاب لا يسع مَن يدّعي هذه الصناعة ويكتسب بها أن لا يكون جله معلومة محفوظة عنده، فإنه مشتمل على أقل ما لا بد منه للطبيب. وأمّا الزّيادة عليه فأمر غير مضبوط.
وإن أخّر الله –تعالى- في الأجل وساعد القدر اِنتصبت لذلك اِنتصاب ثانية.
وأمّا الآن فإني أجمع هذا الكتاب وأقسمه إلى كتب خمسة على هذا المثال:
– الكتاب الأوّل: في الأمور الكلية في علم الطب.
– الكتاب الثّاني: في الأدوية المفردة.
– الكتاب الثّالث: في الأمراض الجزئية الواقعة بأعضاء الإنسان عضو عضو من الفرق إلى القدم ظاهرها وباطنها.
الكتاب الرابع: في الأمراض الجزئيّة التي إذا وقعت لم تختص بعضو وفي الزينة. الكتاب الخامس: في تركيب الأدوية وهو الأقرابادین.
الكتاب الأوّل
في الأمور الكلّيّة في علم الطبّ
يشتمل على أربعة فنون:
الفنّ الأوّل
في حدّ الطبّ وموضوعاته من الأمور الطّبيعيّة
التّعليم الأوّل
الفصل الأوّل
أقول: إنّ الطبّ علم يتعرّف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح ويزول عن الصحة، ليحفظ الصحة حاصلة”)، ويستردها زائلة).
ولقائل أن يقول إنّ الطبّ ينقسم إلى نظر وعمل، وأنتم قد جعلتم كله نظرة، إذ قلتم إنّه علم. وحينئذ نجيبه ونقول إنّه يقال إن من الصناعات ما هو نظري وعملي، ومن الحكمة ما هو نظري وعملي، ويقال إن من الطبّ ما هو نظري وعملي. ويكون المراد في كلّ قسمة بلفظ النّظري والعملي شيئًا آخر، ولا نحتاج الآن إلى بيان اختلاف المراد في ذلك إلا في الطب.
فإذا قيل إن من الطب ما هو نظري، ومنه ما هو عملي، فلا يجب أن يظن أن مرادهم فيه هو أن أحد قسمي الطبّ هو تعليم العلم، والقسم الاخر هو المباشرة للعمل، كما يذهب اليه وهم كثير من الباحثين عن هذا الموضع، بل يحقّ عليك أن تعلم أنّ المُراد من ذلك شيء آخر: وهو أنّه ليس واحد من قسميْ الطبّ إلاّ علما، لكن أحدهما علم أصول الطب، والآخر علم كيفية مباشرته. ثم يخص الأوّل منهما باسم العلم، أو باسم النّظر، ويخص الاخر باسم العمل. فنعني بالنظر منه، ما يكون التعليم فيه مقيد الاعتقاد فقط، من غير أن يتعرض لبيان كيفية عمل، مثل ما يُقال في الطبّ: إنّ أصناف الحميات ثلاثة، وإن الأمزجة تسعة.
ونعني بالعمل منه، لا العمل بالفعل، ولا مزاولة الحركات البدنية، بل القسم من علم الطب الذي يفيد التعليم فيه رأيًا. ذلك الراي متعلق ببيان كيفية عمل مثل ما يقال في الطب، إن الأورام الحارة يجب أن يقرب إليها في الابتداء ما يردع ويبرد ويكشف. ثم من بعد ذلك، تمزج الرادعات بالمرخيات. ثم بعد الانتهاء الى الانحطاط، يقتصر على المرخبات المحللة، إلا في أورام تكون عن مواد تدفعها الأعضاء الرئيسة. فهذا التعليم يفيدك رأيا: هو بيان كيفية عمل، فإذا عملت هذين القسمين، فقد حصل لك علم علمي، وعلم عملي، وإن لم تعمل قطّ.
وليس لقائل أن يقول إن أحوال بدن الانسان ثلاث: الصحّة، والمرض، وحالة ثالثة لا صحّة ولا مرض، وأنت اقتصرت على قسميْن، فإنّ هذا القائل: لعلّه إذا فكر، لم يجد أحد الأمرين واجبًا، لا هذا التّثلیث، ولا إخلالنا به.
ثمّ إنّه إن كان هذا التّثليث واجبة، فإنّ قولنا: الزّوال عن الصحة يتضمّن المرض، والحالة الثّالثة التي جعلوها ليس لها حدّ الصحّة، إذ الصحّة ملكة أو حالة تصدر عنها الأفعال من الموضوع لها سليمة، ولا لها مقابل هذا الحدّ إلاّ أن يحدّوا الصحّة كما يشتهون ويشترطون فيه شروطًا ما بهم إليها حاجة.
ثمّ لا مناقشة مع الأطباء في هذا، وما هم ممن يناقشون في مثله، ولا تؤدّي هذه المناقشة بهم أو بمن يناقشهم إلى فائدة في الطبّ.
وأمّا معرفة الحقّ في ذلك، فممّا يليق بأصول صناعة أخرى، نعني أصول صناعة المنطق، فليطلب من هناك.
الفصل الثّاني
في موضوعات الطّبّ
لمّا كان الطب ينظر في بدن الإنسان من جهة ما يصحّ ويزول عن الصحّة، والعلم، بكلّ شيء، إنّما يحصل ويتم، إذا كان له أسباب، يعلم أسبابه، فيجب أن يعرف، في الطبّ، أسباب الصحّة والمرض والصحة والمرض. وأسبابهما قد يكونان ظاهرين، وقد يكونان خفيين لا ينالان بالحس بل بالاستدلال من العوارض، فيجب أيضًا أن تعرف، في الطبّ، العوارض التي تعرض في الصحة والمرض.
وقد تبين، في العلوم الحقيقيّة، أنّ العلم بالشّيء إنّما يحصل من جهة العلم بأسبابه ومبادئه، إن كانت له إن لم تكن، فإنّما يتمم من جهة العلم بعوارضه ولوازمه الذاتية. لكن الأسباب أربعة أصناف: مادية، وفاعلية، وصورية، وتماميّة.
والأسباب المادّيّة: هي الأشياء الموضوعة التي فيها تقوم الصحّة والمرض: أمّا الموضوع الأقرب، فعضو أو روح. وأما الموضوع الأبعد، فهي الأخلاط، وأبعد منه، هو الأركان. وهذان موضوعان بحسب التركيب وإن كان أيضا مع الاستحالة وكل ما وضع كذلك، فإنه يساق في تركيبه واستحالته إلى وحدة ما، وتلك الوحدة في هذا الموضع التي تلحق تلك الكثرة: إما مزاج، وإما مهيّأة. أما المزاج، فبحسب الاستحالة، وإما الهيئة فبحسب التركيب.
وأما الأسباب الفاعلية: فهي الأسباب المغيرة، أو الحافظة لحالات بدن الإنسان من الأموية)، وما يتصل بها والمطاعم، والمياه، والمشارب، وما يتصل بها، والاستفراغ، والاحتقان، والبلدان، والمساكن، وما يتصل بها، والحركات، والسّكونات البدنية، والنفسانية، ومنها النوم، واليقظة، والاستحالة في الأسنان، والاختلاف فيها، وفي الأجباس والصّناعات والعادات والأشياء الواردة على البدن الإنساني مماسّة له إما غير مخالفة للطّبيعة وإما مخالفة للطبيعة.
وأمّا الأسباب الصّوريّة: فالمزاجات والقرى الحادثة بعدها، والتراكيب.
وأمّا الأسباب التّماسّيّة: فالأفعال، وفي معرفة الأفعال، معرفة القری لا محالة، ومعرفة الأرواح الحاملة للقوى، كما سنبين، فهذه موضوعات صناعة الطبّ، من جهة أنها باحثة عن بدن الإنسان، أنه كيف يصح ويمرض.
وأمّا من جهة تمام هذا البحث، وهو أن تحفظ الصحة، وتزيل المرض، فيجب أن تكون لها أيضًا موضوعات أخر، بحسب أسباب هذين الحالين والاتهما، وأسباب ذلك التدبير بالمأكول، والمشروب، واختيار الهواء، وتقدير الحركة، والسّكون، والعلاج بالدّواء، والعلاج باليد، وكل ذلك عند الأطباء بحسب ثلاثة أصناف من الأصحاء والمرضى والمتوسطين الذين نذكرهم ونذكر أنهم كيف يعدون متوسطين بين قسمين لا واسطة بينهما في الحقيقة.
وإذ قد فصلنا هذه البيانات، فقد اجتمع لنا أنّ الطبّ ينظر في الأركان، والمزاجات، والأخلاط، والأعضاء البسيطة، والمركّبة، والأرواح، وقواها الطّبيعيّة، والحيوانيّة، والنّفسانيّة، والأفعال وحالات البدن من الصحّة والمرض والتوسط وأسبابها من المأكل والمشارب والأموية والمياه والبلدان والمساكن والاستفراغ والاحتقان والصّناعات والعادات والحركات البدنية والنّفسانيّة والسّكونات والأسنان والأجناس، والورادات على البدن من الأمور الغريبة، والتّدبير بالمطاعم والمشارب واختبار الهواء، واختيار الحركات والسكونات والعلاج والأدوية وأعمال اليد لحفظ الصحّة وعلاج مرض مرض، فبعض هذه الأمور إنمّا يجب عليه من جهة ما هو طبيب أن يتصوّره بالماهيّة فقط تصورًا علميًّا، ويصدق بهليته تصديقا على أنّه وضع له مقبول من صاحب العلم الطبيعي، وبعضها يلزمه أن يبرهن عليه في صناعته، فما كان من هذه المبادئ فيلزمه أن يتقلّد هلينها، فإنّ مبادئ العلوم الجزئية مسلمة وتتبرهن وتتبين في علوم أخرى أقدم منها، وهكذا حتى ترتقي مبادئ العلوم كلها إلى الحكمة الأولى التي يقال لها علم ما بعد الطبيعة.
وإذا شرع بعض المتطبّبين وأخذ يتكلّم في إثبات العناصر والمزاج وما يتلو ذلك مما هو موضوع العلم الطبيعي فإنه يغلط من حيث يورد في صناعة الطبّ ما ليس من صناعة الطبّ، ويغلط من حيث يظن أنّه قد يبيّن شيء ولا يكون قد بيّنه البتّة. فالذي يجب أن يتصوّره الطّبيب بالماهيّة، ويتقلّد ما كان منه غير بيّن الوجود بالماهيّة، هو هذه الجملة الأركان أنّها هل هي وكم هي، والمزاجات أنّها هل هي وما هي وكم هي، والأخلاط أيضًا هل هي وما هي وكم هي، والقوى هل هي وكم هي والأرواح هل هي وكم هي وأين هي. وأن لكلّ تغيّر حال وثباته سببًا، وأنّ الأسباب كم هي.
وأمّا الأعضاء ومنافعها، فيجب أن يصادفها بالحسّ والتّشريح.
والذي يجب أن يتصوّره ويبرهن عليه: الأمراض وأسبابها الجزئيّة وعلاماتها وأنّه كيف يزال المرض وتحفظ الصحّة، فإنّه يلزمه أن يعطي البرهان على ما كان من هذا خفي الوجود بتفصيله وتقديره وتوفيته. وجالينوس، إذ حاول إقامة البرهان على القسم الأوّل فلا يجب أن يحاول ذلك من جهة أنه طبيب ولكن من جهة أنه يجب أن يكون فيلسوفة يتكلّم في العلم الطبيعي، كما أنّ الفقيه إذا حاول أن يثبت صحّة وجوب متابعة الإجماع فليس ذلك له من جهة ما هو فقيه، ولكن من جهة ما هو متكلّم ولكن الطّبيب من جهة ما هو طبيب والفقيه من جهة ما هو فقيه ليس يمكنه أن يبرهن على ذلك بته وإلاّ وقع الدّور.
التّعليم الثّاني
في الأركان
وهو فصل واحد:
الأركان هي أجسام ما، بسيطة: هي أجزاء أوّليّة لبدن الإنسان وغيره، وهي التي لا يمكن أن تنقسم إلى أجزاء مختلفة بالصّورة، وهي التي تنقسم المركبات إليها ويحدث بامتزاجها الأنواع المختلفة الصور من الكائنات فليتسلم الطبيب من الطبيعي أنها أربعة لا غير اثنان منها خفيفان واثنان ثقيلان، فالخفيفان النار والهواء، والثّقيلان الماء والأرض، والأرض جرم بسيط موضعه الطّبيعي هو وسط الكل يكون فيه بالطّبع ساکنًا ويتحرّك إليه بالطّبع إن كان مباينة وذلك ثقله المطلق وهو بارد یابس في طبعه، أي طبعه طبع إذا خلي وما يوجبه ولم يغيره سبب من خارج ظهر عنه برد محسوس ويبس. ووجوده في الكائنات وجد مفيد للاسترسال والثّبات وحفظ الأشكال والهيئات. وأما الماء فهو جرم بسيط موضعه الطبيعي أن يكون شاملا للأرض، مشمولاً للهواء، إذا كانا على وضعيهما الطبيعيين وهو ثقله الإضافي.
وهو بارد رطب، أي طبعه طبع إذا خلى وما يوجبه ولم يعارضه سبب من خارج ظهر فيه برد محسوس، وحالة هي رطوبة، وهي كونه في جبلته بحيث يجيب بأدنى سبب إلى أن يتفرق ويتحد ويقبل أي شكل كان، ثم لا يحفظه. ووجوده في الكائنات التّسلس الهيئات التي يُراد في أجزائها التّشكيل والتّخطيط والتّعدیل؛ فإنّ الرّطب، وإن كان سهل التّرك للهيئات الّشّكليّة، فهو سهل القبول لها، كما أنّ اليابس وإن كان عسر القبول للهيئات الشّكليّة فهو عسر التّرك لها، ومهما تخمّر اليابس بالرّطب استفاد اليابس من الرّطب قبولاً للتّمديد والتّشكيل سهلاً، واستفاد الرّطب من اليابس حفظًا لما حدث فيه من التقويم والتّعدیل قويّة واجتمع اليابس بالرّطب عن تشنه واستمسك الرّطب باليابس عن سيلانه.
وأمّا الهواء، فإنّه جرم بسيط موضعه الطبيعي فوق الماء وتحت النار وهذا خفته الإضافية، وطبعه حار رطب على قياس ما قلنا، ووجوده في الكائنات لتخلخل وتلطف وتخف وتستقل. وأما النار فهو جرم بسيط موضعه الطّبيعي فوق الأجرام العنصريّة كلّها ومكانه الطّبيعي هو السطح المقعر من الفلك الذي ينتهي عنده الكون والفساد وذلك خفته المطلقة، وطبعه حار يابس، ووجوده في الكائنات لينضج ويلطف ويمتزج ويجري فيها بتنفيذه الجوهر الهوائي، وليكسر من محرضة برد العنصرين الثّقيلين الباردین فیرجعا عن العنصرية إلى المزاجية. والثّقيلان اعون في كون الأعضاء وفي سكونها. والخفیفان أعون في كون الأرواح وفي تحركها وتحريك الأعضاء وإن كان المحرك الأوّل هو النفس بإذن باریها فهذه هي الأركان.
التّعليم الثّالث
في الأمزجة
وهو ثلاثة فصول:
الفصل الأوّل
في المزاج
أقول: المزاج: كيفية حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادات إذا وقفت على حد ما. ووجودها في عناصر متصغّرة الأجزاء ليماسّ أكثر كلّ واحد منها أكثر الآخر. إذا تفاعلت بقواها بعضها في بعض حدث عن جملتها كيفيّة متشابهة في جميعها هي: المزاج والقوى الأوّليّة في الأركان المذكورة أربع هي: الحرارة والبرودة والرّطوبة واليبوسة.
وبيّن أنّ المزاجات في الأجسام الكائنة الفاسدة إنّما تكون عنها، وذلك بحسب ما توجبه القسمة العقليّة بالنّظر المطلق غير مضاف إلى شيء على وجهين:
– واحد الوجهيْن: أن يكون المزاج معتدل على أن تكون المقادير من الكيفيّات المتضادّة في الممتزج متساوية متقاومة، ويكون المزاج كيفيّة متوسّطة بينهما بالتّحقيق.
– والوجه الثّاني: أن لا يكون المزاج بيّنًا لكيفيّات المتضادّة وسطة مطلقة، ولكن يكون أمْيل إلى أحد الطّرفيْن إّما في إحدى المتضادّتيْن اللّتيْن بين البرودة والحرارة والرّطوبة والیبوسة، وأمّا في كليهما.
لكنّ المُعتبَر في صناعة الطبّ بالاعتدال والخروج عن الاعتدال ليس هذا ولا ذلك، بل يجب أن يتسلّم الطّبيب من الطّبيعي.
إنّ المعتدل على هذا المعنى ممّا لا يجوز أن يوجد أصلاً، فضلاً عن أن يكون مزاج إنسان، أو عضو إنسان، وأن يعلم أن المعتدل الذي يستعمله الأطباء في مباحثهم هو مشتق، لا من التعادل الذي هو التوازن بالسوية، بل من العدل في القسمة، وهو أن يكون قد توفّر فيه على الممتزج بدنا كان بتمامه أو عضوًا من العناصر بكميّاتها وكيفيّاتها القسط الذي ينبغي له في المزاج الإنساني على أعدل قسمة ونسبة.
لكنّه قد يعرض أن تكون هذه القسْمة التي تتوفّر على الإنسان قريبة جدًّا من المعتدل الحقيقي الأوّل، وهذا الاعتدال المعتَبَر بحسب أبدان النّاس أيضًا الذي هو بالقياس إلى غير ممّا ليس له ذلك الاعتدال، وليس له قرب الإنسان من الاعتدال المذكور في الوجه الأوّل يعرض له ثمانية أوْجه من الاعتبارات.
فإنّه إمّا أن يكون بحسب النّوع مقيسة إلى ما يختلف ممّا هو خارج عنه. وإمّا أن يكون بحسب النّوع مقيسة إلى ما يختلف مما هو فيه.
وإمّا أن يكون بحسب صنف من النّوع مقيسة إلى ما يختلف ممّا هو خارج عنه وفي نوعه.
وإمّا أن يكون بحسب صنف من النّوع مقیسًا إلى ما يختلف مما هو فيه.
وإمّا أن يكون بحسب الشّخص من الصّنف من النّوع مقيسة إلى ما يختلف مما هو خارج عنه وفي صنفه وفي نوعه.
وإمّا أن يكون بحسب الشّخص مقيسة إلى ما يختلف من أحواله في نفسه.
وإما أن يكون بحسب العضو مقيسة إلى ما يختلف ممّا هو خارج عنه وفي بدنه.
وإما أن يكون بحسب العضو مقيسة إلى أحواله في نفسه.
– والقسم الأوّل: هو الاعتدال الذي للإنسان بالقياس إلى سائر الكائنات، وهو شيء له عرض وليس منحصر في حدّ، وليس ذلك أيضًا كيف اتفق بل له في الإفراط والتّفريط حدان، إذا خرج عنهما بطل المزاج عن أن يكون مزاج إنسان.
– وأمّا الثّاني: فهو الواسطة بين طرفيْ هذا المزاج العريض، ويوجد في شخص في غاية الاعتدال من صنف في غاية الاعتدال في السنّ الذي يبلغ فيه النّشوء غاية النّموّ. وهذا أيضًا وإن لم يكن الاعتدال الحقيقي المذكور في ابتداء الفصل حتّى يمتنع وجوده، فإنه ممّا یعسر وجوده. وهذا الإنسان أيضًا إنّما يقرب من الاعتدال الحقيقي المذكور، لا كيف اتّفق، ولكن تتكافأ أعضاؤه الحارّة كالقلب، والباردة كالدّماغ، والرّطبة كالكبد، واليابسة کالعظام، فإذا توازنت وتعادلت، قربت من الاعتدال الحقيقي، وأماّ باعتبار كل عضو في نفسه، إلا عضوة واحدة وهو الجلد على ما نصفه بعد.
وأمّا بالقياس إلى الأرواح وإلى الأعضاء الرّئيسة، فليس يمكن أن يكون مقاربة لذلك الاعتدال الحقيقي بل خارجة عنه إلى الحرارة والرطوبة. فإنّ مبدأ الحياة هو القلب والروح، وهما حاران جدًّا مائلان إلى الإفراط. والحياة بالحرارة، والنشوء بالرطوبة، بل الحرارة تقوم بالرطوبة وتغتذي بها. والأعضاء الرّئيسة ثلاثة كما سنبين بعد هذا، والبارد منها واحد وهو الدّماغ. وبرده لا يبلغ أن يعدل حرّ القلب والكبد. واليابس منها أو القريب من اليبوسة واحد وهو القلب، ويبوسته لا تبلغ أن تعدل مزاج رطوبة الدماغ والكبد. وليس الدّماغ أيضًا بذلك البارد، ولا القلب أيضًا بذلك اليابس، ولكنّ القلب بالقياس إلى الآخر يابس، والدّماغ بالقياس إلى الآخرين بارد.
– وأمّا القسم الثّالث: فهو أضيق عرضًا من القسم الأول، أعني من الاعتدال النوعي إلا أن له عرضا صالحة وهو المزاج الصالح الأمة من الأمم بحسب القياس إلى إقليم من الأقاليم، وهواء من الأموية، فإن للهند مزاجًا يشمهلم يصحون به. وللصقالبة) مزاجا اخر يخصون به ويصحون به. كلّ واحد منهما معتدل بالقياس إلى صنفه، وغير معتدل بالقياس إلى الآخر. فإنّ البدن الهندي إذا تكتف بمزاج الصّقلابي مرض أو هلك. وكذلك حال البدن الصّقلابي إذا تكيف بمزاج الهندي. فيكون إذن لكل واحد من أصناف سكّان المعمورة مزاج خاص يوافق هواء إقليمه، وله عرض ولعرضه طرفا إفراط وتفریط.
– وأمّا القسم الرّابع: فهو الواسطة بين طرفيْ عرض مزاج الإقليم، وهو أعدل امزجة ذلك الصّنف.
– وأمّا القسم الخامس: فهو أضيق من القسم الأوّل والثّالث، وهو المزاج الذي يجب أن يكون الشّخص معين حتّى يكون موجودة حيًّا صحيحًا، وله أيضًا عرض يحده طرفًا إفراط وتفریط. ويجب أن تعلم أن كل شخص يستحقّ مزاجة يخصّه بندر، أو لا يمكن أن يشاركه فيه الآخر.
– وأمّا القسم السّادس: فهو الواسطة بين هذين الحدين أيضا، وهو المزاج الذي إذا حصل للشخص كان على أفضل ما ينبغي له أن يكون عليه.
– وأمّا القسم السّابع: فهو المزاج الذي يجب أن يكون لنوع كل عضو من الأعضاء يخالف به غيره، فإن الاعتدال الذي للعظم هو أن يكون اليابس فيه أكثر، وللدماغ أن يكون الرطب فيه أكثر، وللقلب أن يكون الحار فيه أكثر، وللعصب أن يكون البارد فيه أكثر، ولهذا المزاج أيضا عرض يحده طرفا إفراط و تفریط هو دون العروض المذكورة في الأمزجة المتقدّمة.
– وأمّا القسم الثّامن: فهو الذي يخصّ كلّ عضو من الاعتدال حتّى يكون العضو على أحسن ما يكون له في مزاجه، فهو الواسطة بين هذين الحدين وهو المزاج الذي إذا حصل للعضو كان على أفضل ما ينبغي له أن يكون عليه.
فإذا اعتبرت الأنواع كان أقربها من الاعتدال الحقيقي هو الإنسان. وإذا اعتبرت الأصناف فقد صحّ عندنا أنّه إذا كان في الموضع الموازي لمعدل النهار عمارة ولم يعرض من الأسباب الأرضيّة أمر مضاد أعني من الجبال والبحار فيجب أن يكون سكانها أقرب الأصناف من الاعتدال الحقيقي. وصحّ أنّ الظنّ الذي يقع، أنّ هناك خروجًا عن الاعتدال بسبب قرب الشّمس ظنّ فاسد، فإن مسامتة الشّمس هناك أقلّ نكاية وتغييرة للهواء من مقاربتها هاهنا، أو أكثر عرضة مما ههنا وإن لم تات. ثم ّسائر أحوالهم فاضلة متشابهة، ولا يتضادّ عليهم الهواء تضادًّا محسوسًا، بل بشابه مزاجهم دائمًا. وكنّا قد عملنا في تصحيح هذا الرّأي رسالة.
ثم ّبعد هؤلاء فأعدل الأصناف سكان الاقليم الرابع، فإنّهم لا محترفون بدوام مسامتة الشمس رؤوسهم حينا بعد حين بعد تباعدها عنهم كسكان أكثر الثاني والثالث، ولا نجون نيون بدوام بعد الشّمس عن رؤوسهم کسکّان أكثر الخامس، وما هو أبعد منه عرضة؛ وأمّا في الأشخاص، فهو أعدل شخص من أعدل صنف من أعدل نوع. وأمّا في الأعضاء، فقد ظهر أنّ الأعضاء الرئيسة ليست شديدة القرب من الاعتدال الحقيقي.
بل يجب أن تعلم أنّ اللّحم أقرب الأعضاء من ذلك الاعتدال، وأقرب منه الجلد، فإنّه لا يكاد ينفعل عن ماء ممزوج بالتّساوي، نصفه جمد ونصفه مغلي، ويكاد يتعادل فيه تسخين العروق والدم لتبريد العصب، وكذلك لا ينفعل عن جسم حسن الخلط من أيبس الأجسام وأسيلها إذا كانا فيه بالسوية، وإنّما يعرف أنّه لا ينفعل منه لأنّه لا يحسّ، وإنّما كان مثله لمّا كان لا ينفعل منه، لأنّه لو كان مخالفة له لانفعل عنه، فإنّ الأشياء المتفقة العنصر المتضادّة الطّبائع ينفعل بعضها عن بعض. وإنّما لا ينفعل الشّيء عن مشاركة في الكيفيّة إذا كان مشاركة في الكيفيّة شبيهة فيها.
وأعدل الجلد: جلد اليد، وأعدل جلد اليد جلد الكف، وأعدله: جلد الراحة، أعدله ما كان على الأصابع، وأعدله ما كان على السبابة، وأعدله ما كان على الأنملة منها، فلذلك هي وأنامل الأصابع الأخرى تكاد تكون هي الحاكمة بالطّبع في مقادير الملموسات. فإن الحاكم يجب أن يكون متساوي الميْل إلى الطّرفيْن جميعًا حتّى يحسّ بخروج الطّرف عن التّوسّط والعدل.
ويجب أن تعلم -مع ما قد علمتَ- أنّا إذا قلنا للدّواء إنّه معتدل، فلسنا نعني بذلك أنّه معتدل على الحقيقة، فذلك غير ممكن. ولا أيضًا أنّه معتدل بالاعتدال الإنساني في مزاجه، وإلاّ لكان من جوهر الإنسان بعينه. ولكنّا نعني أنّه إذا انفعل عن الحار الغريزي في بدن الإنسان فتكيف بكيفية، لم تكن تلك الكيفية خارجة عن كيفية الإنسان إلى طرف من طرفي الخروج عن المساواة، فلا يؤثّر فيه أثرة مائلاً عن الاعتدال؛ وكانه معتدل بالقياس إلى فعله في بدن الإنسان.
وكذلك إذا قلنا إنّه حارّ أو بارد، فلسنا نعني أنه في جوهره بغاية الحرارة أو البرودة، ولا أنّه في جوهره أحرّ من بدن الإنسان، أو أبرد، وإلاّ لكان المعتدل ما مزاجه مثل مزاج الإنسان.
ولكنّا نعني به: أنّه يحدث منه في بدن الإنسان حرارة أو برودة فوق اللّتيْن له. ولهذا قد يكون الدّواء باردًا بالقياس إلى بدن الإنسان، حارًّا بالقياس إلى بدن العقرب، وحارًّا بالقياس إلى بدن الإنسان باردًا بالقياس إلى بدن الحية، بل قد يكون دواء واحد أيضًا حارًّا بالقياس إلى بدن زید، فوق كونه حارًّا بالقياس إلى بدن عمرو. ولهذا يؤمر المعالجون بأن لا يقيمون على دواء واحد في تبديل المزاج إذا لم ينْجح.
وإذ قد استوفينا القول في المزاج المعتدل، فلننْتقل إلى غير المعتدل، فنقول: إنّ الأمزجة الغير المعتدلة سواء أخذتها بالقياس إلى النّوع، أو الصّنف، أو الشّخص، أو العضو، ثمانية بعد الاشتراك في أنّها مقابلة للمعتدل.
وتلك الثّمانية تحدث على هذا الوجه، وهو أن الخارج عن الاعتدال إما أن يكون بسيطة وإنما يكون خروجه في مضادة واحدة، وإما أن يكون مركبة. وإنما يكون خروجه في المضادتين جميعا. والبسيط الخارج في المضادة الواحدة إما في المضادة الفاعلة، وذلك على قسمين: لأنّه، إما أن يكون أحرّ ممّا ينبغي، لكن ليس أرطب مما ينبغي، ولا أبْرد ممّا ينبغي، أو يكون أبرد مما ينبغي، وليس أيبس مما ينبغي ولا أرطب مما ينبغي، وإما أن يكون في المضادّة المنفعلة، وذلك على قسميْن: لأنّه، إما أن يكون أيبس مما ينبغي وليس أحر ولا أبرد مما ينبغي، وإمّا أن يكون أرطب مما ينبغي وليس احر ولا أبرد مما ينبغي، لكن هذه الأربعة لا نستقر ولا تثبت زمانا له قدر، فإنّ الأحرّ ممّا ينبغي يجعل البدن أيبس مما ينبغي، والأبرد مما ينبغي بجعل البدن أرطب مما ينبغي بالرطوبة الغريبة، والأيبس مما ينبغي سريعة ما يجعله ابرد ممّا ينبغي، والأرطب ممّا ينبغي إن كان بإفراط فإنه أسرع من الأيبس في تبریده، وإن كان ليس بإفراط فإنّه يحفظه مدّة أكثر، إلا أنه يجعله آخر الأمر أبرد مما ينبغي.
وأنت تفهم من هذا أنّ الاِعتدال أو الصحة أشدّ مناسبة للحرارة منها للبرودة، فهذه هي الأربع المفردة.
وأمّا المركّبة التي يكون الخروج فيها في المضادتين جميعا، فمثل أن يكون المزاح أحر وارطب معا مما ينبغي، أو أبرد وأرطب معا مما ينبغي، أو ابرد وأیبس معًا. ولا يمكن أن يكون أحر وأبرد معا ولا أرطب وأيبس معًا.
وكلّ واحد من هذه الأمزجة الثمانية لا يخلو إما أن يكون بلا مادة، وهو أن يحدث ذلك المزاج في البدن كيفية وحدها من غير أن يكون قد تكيف البدن به لنفوذ خلط فيه متكيف به، فبتغير البدن إليه، مثل حرارة المدقوق وبرودة الخصر المصرود المثلوج؛ وإمّا أن يكون مع مادّة وهو أن يكون البدن إنما تكتف بكيفية ذلك المزاج لمجاورة خلط نافذ فيه غالب عليه تلك الكيفية، مثل تبرد الجسم الإنساني بسبب بلغم زجاجي، أو تسخنه بسبب صفراء كراني.
وستجد في الكتاب الثّالث والرّابع مثالاً لواحد واحد من الأمزجة الستّة عشر.
واعلم: أنّ المزاج مع المادّة قد يكون على جهتين، وذلك لأنّ العضو قد يكون تارة منتفعة في المادّة متبلاًّ بها، وقد تكون تارة المادة محتبسة في مجاريه وبطونه، فربّما كان احتباسها ومداخلتها يحدث توريمًا، وربّما لم يكن.
فهذا هو القول في المزاج، فليتسلّم الطّبيب من الطّبيعي على سبيل الوضع ما ليس بيّنًا له بنفسه.
الفصل الثّاني
في أمزجة الأعضاء
اعلم أنّ الخالق -جلّ جلاله- أعطى كلّ حيوان، وكلّ عضو من المزاج ما هو ألْيق به وأصْلح لأفعاله وأحواله بحسب الإمكان له. وتحقيق ذلك إلى الفيلسوف دون الطبيب.
وأعطى الإنسان أعدل مزاج بمكن أن يكون في هذا العالم مع مناسبة لقواه التي بها بفعل وينفعل.
وأعطى كلّ عضو ما يليق به من مزاجه، فجعل بعض الأعضاء أحز، وبعضها أبرد، وبعضها أیبس، وبعضها أرطب.
فأمّا أحرّ ما في البدن، فهو الرّوح والقلب الذي هو منشؤه، ثمّ الدّم، فإنّه وإن كان متولدة في الكبد، فإنّه لاتّصاله بالقلب يستفيد من الحرارة ما ليس للكبد، ثم ّالكبد لأنّها کدَم جامد، ثمّ الرّئة، ثم اللّحم، وهو أقلّ منها بما يخالطه من ليف العصب البارد، ثمّ العضل، وهو أقلّ حرارة من اللحم المفرد لما يخالطه من العصب والرباط، ثمّ الطّحال لما فيه من عكر الدم، ثمّ الكلي لأنّ الدّم فيها ليس بالكثير، ثمّ طبقات العروق الضوارب لا بجواهرها العصبية، بل بما تقبله من تسخين الدّم والروح اللذين فيها، ثمّ طبقات العروق السّواكن لأجل الدّم وحده، ثمّ جلدة الكفّ المعتدلة، وأبرد ما في البدن البلغم، ثمّ الشّحم، ثمّ الشّعر، ثمّ العظم، ثمّ الغضروف، ثمّ الرّباط، ثمّ الوتر، ثمّ الغشاء، ثمّ العصب، ثمّ النّخاع، ثمّ الدّماغ، ثمّ الجلد.
وأمّا أرطب ما في البدن فالبلغم، ثمّ الدّم، ثمّ السّمين، ثمّ الشحم، ثم الدماغ، ثم النخاع، ثمّ لحم الثدي، والأنثيين، ثمّ الرّئة، ثمّ الكبد، ثمّ الطّحال، ثمّ الكليتان، ثمّ العضل، ثمّ الجلد.
هذا هو التّرتيب الذي رتّبه جالينوس، ولكن يجب أن تعلم أنّ الرّئة، في جوهرها وغريزتها ليست برطبة شديدة الرّطوبة، لأنّ كلّ عضو شبيه في مزاجه الغريزي بما يتغذّى به، وشبيه في مزاجه العارض بما يفضل فيه. ثمّ الرئة تغتذي من أسخن الدّم وأكثره مخالطة للصفراء. فعلّمنا هذا جالینوس، بعينه ولكنها قد يجتمع فيها فضل كثير من الرّطوبة عمّا يتصعّد من بخارات البدن وما ينحدر إليها من النّزلات.
وإذا كان الأمر على هذا، فالكبد أرطب من الرئة كثيرة في الرطوبة الغريزيّة. والرّئة أشدّ ابتلالاً، وإن كان دوام الابتلال قد يجعلها أرطب في جوهرها أيضًا.
وهكذا يجب أن تفهم من حال البلغم والدّم من جهة، وهو أن ترطيب البلغم في أكثر الأمر هو على سبيل البلّ، وترطيب الدّم هو على سبيل التّقرير في الجوهر، على أنّ البلغم الطّبيعي المائي قد يكون في نفسه أشدّ رطوبة، فإنّ الدّم بما يستوفي حظّه من النّضج يتحلّل منه شيء كثير من الرّطوبة التي كانت في البلغم المائي الطّبيعي الذي استحال إليه، فستعلم بعد أنّ البلغم الطبيعي دم استحال بعض الاستحالة.
وأمّا أيبس ما في البدن فالشّعر، لأنّه من بخار دخاني تحلل ما كان فيه من خلط البخار وانعقدت الدّخانيّة الصّرفة، ثمّ العظم لأنّه أصلب الأعضاء، لكنّه أصلب من الشّعر، لأنّ كون العظم من الدم ووضعه وضع نشاف للرّطوبات الغريزيّة متمكّن منها. ولذلك ما كان العظم يغذو كثيرًا من الحيوانات والشّعر لا بغذو شيئًا منها أو عسى أن يغذو نادرة من جملتها، كما قد ظُنّ من أنّ الخفافيش تهضمه وتسيغه. لكنّا إذا أخذنا قدریْن متساويَيْن من العظم والشّعر في الوزْن، فقطرناهما في القرع والإنبيق، سال من العظم ماء ودهن أكثر، وبقي له ثقل أقلّ. فالعظم إذًا أرطب من الشّعر. وبعد العظم في اليبوسة الغضروف، ثمّ الرباط، ثمّ الوتر، ثم ّ الغشاء، ثمّ الشّرايين، ثّم الأوردة، ثمّ عصب الحركة، ثمّ القلب، ثمّ عصب الحسن. فإن عصب الحركة أبرد وأیبس معًا كثيرة من المعتدل. وعصب الحسّ أبرد وليس أیبس كثيرة من المعتدل بل عسى أن يكون قريبة منه، وليس أيضًا كثير البعد منه في البرد ثمّ الجلد.
الفصل الثّالث
في أمزجة الأسنان والأجناس
الأسنان أربعة في الجملة: سنّ النّموّ، ويسمّى: سنّ الحداثة، وهو إلى قريب من ثلاثين سنة، ثمّ سنّ الوقوف: وهو سنّ الشّباب، وهو إلى نحو خمس وثلاثين سنة أو أربعين سنة، وسنّ الانحطاط مع بقاء من القوّة: وهو سنّ المكتهّلين، وهو إلى نحو ستّين سنة، وسنّ الانحطاط مع ظهور الضّعف في القوّة: وهو سنّ الشّيوخ إلى آخر العمر.
لكن سن الحداثة ينقسم إلى: سنّ الطّفولة: وهو أن يكون المولود بعد غير مستعد الأعضاء للحركات والنّهوض، وإلى سن الصبا: وهو بعد النّهوض وقبل الشدّة، وهو أن لا تكون الأسنان استوفت السقوط والنّبات. ثم سن التّرعرع: وهو بعد الشدّة ونبات الأسنان قبل المراهقة، ثمّ سنّ الغلاميّة والرّهاق إلى أن يبقل وجهه. ثمّ سنّ الفتي: إلى أن يقفل النّموّ، والصّبيان أعني من الطّفولة إلى الحداثة مزاجهم في الحرارة كالمعتدل، وفي الرّطوبة كالزائد، ثمّ بيّن الأطبّاء الأقدمين اختلاف في حرارتي الصبي والشاب، فبعضهم يرى أن حرارة الصّبيّ أشدّ، ولذلك ينمو أكثر، وتكون أفعاله الطبيعية من الشهوة والهضم كذلك أكثر وأدوم، لأنّ الحرارة الغريزية المستفادة فيهم من المنيّ أجمع وأحدث.
وبعضهم يرى أنّ الحرارة الغريزية في الشبّان أقوى بكثير لأنّ دمهم أكثر وأمتن، ولذلك يصيبهم الرّعاف أكثر وأشدّ، ولأنّ مزاجهم إلى الصّفراء أميل، ومزاج الصّبيان إلى البلغم أميل، ولأنّهم أقوى حركات، والحركة بالحرارة، وهم أقوى استمراء وهضمة وذلك بالحرارة.
وأمّا الشّهوة، فليست تكون بالحرارة، بل بالبرودة، ولهذا ما تحدث الشّهوة الكلبيّة في أكثر الأمر من البرودة، والدّليل على أنّ هؤلاء أشدّ، استمراء أنّه لا يصيبهم من التّهوّع والقيء والتّخمة ما يعرض للصّبيان لسوء الهضم.
والدّليل على أن مزاجهم أميل إلى الصّفراء، هو أنّ أمراضهم حارة كلها، كحمى الغب وتينهم صفراوي. وأمّا أكثر أمراض الصّبيان، فإنّها رطبة باردة، وحمياتهم بلغمية، وأكثر ما يقذفونه بالقيء بلغم. وأمّا النّموّ في الصّبيان، فليس من قوّة حرارتهم، ولكن لكثرة رطوبتهم. وأيضًا، فإنّ كثرة شهوتهم تدلّ على نقصان حرارتهم.
هذا مذهب الفريقين واحتجاجهما.
وأمّا جالينوس، فإنّه يردّ على الطائفتين جميعًا، وذلك أنّه يرى الحرارة فيهما متساوية في الأصل، لكنّ حرارة الصّبيان أكثر كمّيّة وأقلّ كيفيّة، أي حدّة. وحرارة الشبّان أقل ّكميّة وأكثر کيفيّة أي حدّة.
وبيان هذا على ما يقوله فهو أن يتوهّم أن حرارة واحدة بعينها في المقدار، أو جسم لطيفة حارّة واحدة في الكيف والكمّ فشا تارة في جوهر رطب کثیر کالماء، وفشا أخرى في جوهر یابس قليل كالحجر، وإذا كان كذلك فإنّا نجد حينئذ الماء الحار المائي أكثر كمية وألين کيفيّة، والحار الحجري أقل كمية وأحذ كيفية. وعلى هذا | فقس وجود الحار في الصبيان والشبان، فإن الصبيان إنما يتولدون من المني الكثير الحرارة، وتلك الحرارة لم يعرض لها من الأسباب ما يطفئها. فإن الصبي ممعن في التزيد ومتدرج في النمو ولم يقف بعد، فكيف يتراجع؟
وأمّا الشّابّ فلم يقع له سبب يزيد في حرارته الغريزيّة ولا أيضا وقع له سبب يطفئها بل تلك الحرارة مستحفظة فيه برطوبة أقلّ كمّية وكيفيّة معًا إلى أن يأخذ في الانحطاط. وليست قلة هذه الرطوبة تعد قلّة بالقياس إلى استحفاظ الحرارة ولكن بالقياس إلى النمو، فكان الرطوبة تكون أولا بقدر یفی به کلا الأمرين، فيكون بقدر ما نحفظ الحرارة وتفضل أيضا النمو ثم تصير بأخرة بقدر لا يفي بكلا الأمرين، ثمّ تصير بقدر لا يفي ولا بأحد الأمرين، فيجب أن يكون في الوسط بحيث يفي بأحد الأمرين دون الآخر.
ومحال أن يُقال إنّها تفي بالتّنمية ولا تفي بحفظ الحرارة الغريزية، فإنّه كيف يزيد على الشّيء ما ليس يمكنه أن يحفظ الأصل؟ فبقي أن يكون إنّما يفي بحفظ الحرارة الغريزيّة ولا يفي بالنمو. ومعلوم أنّ هذا السنّ هو سنّ الشباب.
وأمّا قول الفريق الثّاني: أن النمو في الصبيان إنما هو بسبب الرّطوبة دون الحرارة، فقول باطل، وذلك لأن الرطوبة مادّة للنّموّ، والمادّة لا تنفعل ولا تتخلق بنفسها، بل عند فعل القوّة الفاعلة فيها، والقوّة الفاعلة هاهنا هي نفس أو طبيعة بإذن الله -عزّ وجلّ-، ولا تفعل إلاّ بآلة هي الحرارة الغريزية.
وقولهم أيضًا: إن قوّة الشّهوة في الصبيان إنما هي لبرد المزاج قول باطل. فإن تلك الشّهوة الفاسدة التي تكون لبرد المزاج لا يكون معها استمراء واغتذاء، والاستمراء في الصّبيان في أكثر الأوقات على أحسن ما يكون، ولولا ذلك لما كانوا يوردون من البدل الذي هو الغذاء أكثر ممّا يتحلّل حتى ينمو، ولكنّهم قد يعرض لهم سوء استمرائهم لشرههم وسوء تربيتهم لمطعومهم وتناولهم الأشياء الرّديئة والرّطبة والكثيرة وحركاتهم الفاسدة عليها، فلهذا تجتمع فيهم فضول أكثر، ويحتاجون إلى تنقية أكثر، وخصوصًا رئاتهم، ولذلك نبضهم أشدّ تواتر وسرعة، وليس له عظم لأنّ قوّتهم لم تتمّ.
فهذا هو القول في مزاج الصّبيّ والشّاب على حسب ما تكفّل جالینوس، ببيانه وعبّرنا عنه.
ثمّ يجب أن تعلم أنّ الحرارة بعد مدّة من الوقوف تأخذ في الانتقاص لانتشاف الهواء المحيط مادّتها التي هي الرّطوبة، ومعاونة الحرارة الغريزيّة التي هي أيضًا من داخل ومعاضدة الحركات البدنيّة والنّفسانيّة الضّروريّة في المعيشة لها، وعجز الطّبيعة عن مقاومة ذلك دائمًا، فإنّ جميع القوى الجسمانية متناهية. فقد تبين ذلك في العلم الطّبيعي، فلا يكون فعلها في الإيراد دائمة.
فلو كانت هذه القوى أيضًا غير متناهية وكانت دائمة الإيراد، لیدلّ ما بتحلّل على السّواء بمقدار واحد ولكن كان التّحلّل ليس بمقدار واحد، بل يزداد دائما كلّ يوم لمّا كان البدل يقاوم التّحلّل، ولكن التّحلّل يفني الرّطوبة، فكيف والأمر أنّ كلاهما متظاهران أنّ على تهيئة النّقصان والتراجع؟!
وإذ كان كذلك، فواجب ضرورة أن يفني المادّة، بل يطفئ الحرارة وخصوصًا إذا كان يعين انطفائها بسبب عون المادّة سبب آخر وهو الرطوبة الغريبة التي تحدث دائمًا لعدم بدل الغذاء الهضم، فيعين على انطفائها من وجهين:
– أحدهما بالخنق والغمر؛
– والآخر بمضادّة الكيفيّة، لأنّ تلك الرطوبة تكون بلغمية باردة، وهذا هو الموت الطّبيعي المؤجل لكلّ شخص بحسب مزاجه الأوّل إلى حدّ تضمّنه قوّته في حفظ الرّطوبة.
ولكلّ منهم أجل مسمّى ولكل أجل كتاب، وهو مختلف في الأشخاص لاختلاف الأمزجة.
فهذه هي الآجال الطّبيعيّة، وهاهنا آجال اخترامية غيرها، وهي أخرى وكلّ بقدر.
فالحاصل إذًا من هذا: أنّ أبدان الصّبيان والشبّان حارّة باعتدال، وأبدان الكهول والمشائخ باردة، ولكنّ أبدان الصّبيان أرطب من المعتدل لأجل النّموّ، ويدل عليه التّجربة، وهي من لين عظامهم وأعصابهم. والقياس وهو من قرب عهدهم بالمنيّ والروح البخاري.
وأمّا الكهول والمشايخ خصوصًا، فإنهم مع أنّهم أبرد فهم أیبس، يُعلَم ذلك بالتّجرية من صلابة عظامهم ونشف جلودهم وبالقياس من بعد عهدهم بالمنيّ والدّم والرّوح البخاري، ثمّ النّاريّة متساوية في الصّبيان والشبّان والهوائيّة والمائيّة في الصّبيان أكثر، والأرضيّة في الكهول والمشايخ أكثر منها فيهما، وهي في مشايخ أكثر.
والشّابّ معتدل المزاج فوق اعتدال الصّبيّ، لكنّه بالقياس إلى الصّبيّ يابس المزاج، وبالقياس إلى الشّيخ والكهل حارّ المزاج، والشّيخ أيبس من الشابّ، والكهل في مزاج أعضائه الأصليّة وأرطب منهما بالرّطوبة الغريبة البالّة.
وأمّا الأجناس في اختلاف أمزجتها، فإنّ الإناث أبرد أمزجة من الذّكور، ولذلك قصرن عن الذّكور في الخلق، وأرطب؛ فلبرد مزاجهنّ تکثر فضولهنّ، ولقلّة رياضتهنّ جوهر لحومهنّ أسخف، وإن كان لحم الرّجل من جهة تركيبه بما يخالطه أسخف، فإنّه لكثافته أشدّ تبدأ ممّا ينفذ فيه من العروق وليف العصب. وأهل البلاد الشّماليّة أرطب، وأهل الصّناعة المائيّة أرطب. والذين يخالفونهم، فعلى الخلاف.
وأمّا علامات الأمزجة، فسنذكرها حيث نذكر العلامات الكليّة والجزئيّة.
Reviews
There are no reviews yet.